النهضة- أزمة وجودية وفرصة تاريخية للتجديد والإنقاذ

تمرّ حركة النهضة التونسية بمرحلة حرجة ومصيرية، حيث تتداخل معضلتها الداخلية مع التحديات التي تواجهها البلاد عقب أحداث 25 يوليو/تموز، الأمر الذي يجعل تحديثها الذاتي ضرورة ملحة على الصعيدين الحزبي والوطني، لا غنى عنها.
فالغاية المنشودة لم تعد مجرد تبديل في الوجوه والشخصيات، بل تستدعي مراجعة شاملة وعميقة للفكر والرؤية، للهوية والجوهر، وللأداء السياسي برمته، وذلك من خلال إدماج فعال للطاقات الشابة والكوادر النسائية، وتجديد الصفوف القيادية، والانتقال من مجرد الخطابات والشعارات إلى صياغة برامج عمل ملموسة وواقعية.
وبإمكان حركة النهضة، إذا ما تبنت هذا النهج بجدية وإخلاص، أن تتحول من حزب يعاني الأزمات إلى قوة سياسية معتدلة وديمقراطية محافظة، تساهم بفعالية في سدّ الفراغ السياسي المتزايد، وتدعم جهود إعادة بناء الحياة السياسية، لتكون جزءًا من الحل المنشود لا جزءًا من المشكلة القائمة. إنها لحظة تتطلب مراجعة مسؤولة وشجاعة، وفرصة سانحة لإعادة صياغة المشروع على أسس وطيدة وواقعية، منفتحة على آفاق المستقبل، تواكب تطلعات المجتمع وتطلعات شبابه، وتحترم المكتسبات الديمقراطية التي تحققت.
منذ نشأتها في سبعينيات القرن الماضي، تميزت حركة النهضة بتجربتها الفريدة ضمن حركات التيار الإسلامي في العالم العربي. إذ سعت جاهدة للتوفيق بين مبادئ الإسلام وقيم الديمقراطية، وبين التعاليم الدينية ومتطلبات العمل السياسي، في بلد يشهد تحولات اجتماعية وثقافية متسارعة وعميقة. وعلى الرغم من سنوات القمع والاضطهاد في عهدي بورقيبة وبن علي، استطاعت الحركة أن تصمد وتعود بقوة إلى الساحة السياسية بعد الثورة، لتصبح فاعلاً رئيسياً ومؤثراً في المشهد السياسي الجديد.
إلا أن الواقع السياسي الذي تجلى بعد مرور أكثر من عقد على الثورة، أظهر بجلاء أن الرصيد النضالي لحركة النهضة لم يكن كافياً لمواصلة التأثير والقيادة بنفس القدرة. فقد أصاب مشروعها السياسي قدر كبير من الجمود والتصلب، وغاب عنه التجديد المبتكر للأدوات والخطابات، مما جعلها تبدو في نظر الكثيرين، وكأنها قد فقدت الاتصال الحيوي بالمجتمع وبمتغيرات الواقع الجديد.
من الأزمة التنظيمية إلى الأزمة الوجودية
من السهل إلقاء اللوم في تراجع شعبية حركة النهضة على عوامل خارجية مثل أحداث 25 يوليو/تموز 2021، والحملات الإعلامية التي تستهدف الإسلاميين، والتضييقات الإعلامية والقضائية. نعم، هذه كلها حقائق لا يمكن تجاهلها أو التقليل من شأنها، ولكن الحقيقة الأكثر مرارة وإيلاما هي أن جزءًا كبيرًا من الأزمة يكمن في الداخل: أزمة قيادة حقيقية، وأزمة في الخيال السياسي والإبداع، وكذلك أزمة في الجرأة على المراجعة الذاتية النقدية.
فقد طغى على أداء الحركة في السنوات الأخيرة منطق الإدارة البيروقراطية الجامدة على حساب الحيوية الفكرية والتنظيمية المطلوبة. كما تحول المؤتمر الحادي عشر، الذي كان من المفترض أن يكون محطة انطلاق للتجديد والتغيير، إلى مجرد أداة لتأجيل المشاكل وتدويرها، بدلاً من حلها بشكل جذري. وبات من الواضح أن حركة النهضة اليوم ليست مطالبة فقط بتغيير الأشخاص أو توزيع المسؤوليات، بل بمساءلة مشروعها السياسي بأكمله: لماذا تستمر؟ وما هو مضمون هذا الاستمرار؟ ولمن تتوجه بهذا المشروع؟
بين الفكرة والتنظيم: هل من أفق جديد؟
عانى مشروع حركة النهضة من أزمة في التعريف والتوصيف: هل هو حزب مدني ذو مرجعية إسلامية؟ أم حركة قيمية تسعى لنشر الفضيلة؟ أم مجرد إطار سياسي ذي هوية ثقافية محددة؟ هذا الغموض في الهوية أثر بشكل كبير في خطاب الحركة، وأربك جمهورها وقواعدها. فبين محاولة كسب ثقة الأطراف الداخلية وطمأنة القوى الخارجية، ضاعت البوصلة وتشتت الرؤية.
هناك حاجة ملحة اليوم إلى إعادة تعريف مشروع حركة النهضة على أسس جديدة وراسخة، تتجاوز الازدواجية بين كونها حركة وحزباً، وتتبنى بوضوح موقعاً محدداً كـ"حزب محافظ وسطي" يعبر عن شريحة واسعة من المجتمع، تؤمن بالقيم الأصيلة وتطمح إلى التقدم والازدهار، وتحترم مؤسسات الدولة وسيادة القانون دون قطيعة مع الموروث الثقافي والحضاري.
تجديد يتجاوز الأشخاص إلى الفكرة
إن التجديد المنشود ليس مجرد شعارًا براقًا أو تبادلاً للمواقع والمناصب، بل هو مراجعة شاملة للفكرة والأسلوب، وهو أيضاً فعل جماعي تشاركي لا يقتصر على النخب والشخصيات البارزة، بل يجب أن تشارك فيه كافة مكونات الحزب: الشباب، النساء، الكفاءات المهمشة، والمناطق التي عانت طويلاً من التهميش والإقصاء لصالح العاصمة والمدن الكبرى.
لقد أثبتت التجارب السابقة داخل حركة النهضة نفسها أن الدفع بوجوه جديدة إلى الصفوف الأمامية لا يقتصر على تحقيق التوازنات الداخلية وإرضاء مختلف الأطراف، بل هو أيضاً شرط جوهري لتطوير وتحديث المشروع وتجاوز الإرث التنظيمي الثقيل الذي يعيق التقدم.
كما أن التجديد لا يمكن أن ينتظر انعقاد المؤتمرات المؤجلة، بل يجب أن يبدأ من القواعد الشعبية، ومن العمل المحلي الميداني، ومن خلال لجان التفكير والبحث، ومن منصات التواصل الحديثة التي أصبحت فضاءات موازية لإنتاج سياسي لا يقل أهمية عن الهياكل الرسمية للحزب.
معادلة الرمزية التاريخية وضرورة التجديد القيادي
لا يمكن الحديث عن تجديد حركة النهضة دون التطرق إلى المسألة القيادية التي أصبحت اليوم أكثر إلحاحاً من أي وقت مضى. تمتلك النهضة رصيداً رمزياً كبيراً يتجسد بشكل أساسي في شخصية زعيمها التاريخي راشد الغنوشي، أحد أبرز مهندسي المشروع وواجهاته الفكرية والسياسية منذ التأسيس. لقد لعب الغنوشي دوراً محورياً في ترسيخ التوجه الديمقراطي داخل الحركة وفي حماية مسار الانتقال الديمقراطي بعد الثورة.
لكن المتغيرات السياسية تفرض اليوم معادلة جديدة تقوم على الموازنة الدقيقة بين الحفاظ على هذا الرصيد الرمزي الذي لا يمكن إنكاره أو التفريط فيه، وضرورة إفساح المجال أمام قيادات شابة تعبر عن التحولات والتطورات داخل الحركة والمجتمع، وتعكس تطلعات الأجيال القادمة وطموحاتهم.
لم يعد الانتقال القيادي والجيلي مجرد مطلباً تنظيمياً فحسب، بل أصبح شرطاً أساسياً لبقاء المشروع نفسه واستمراره. والبحث عن صيغة ذكية ومرنة تمكن حركة النهضة من الاستفادة من خبرة قيادتها التاريخية ورصيدها النضالي، دون أن تبقى أسيرة لها أو حبيسة الماضي، هو مفتاح أساسي من مفاتيح الإنقاذ والتجديد. فالحركات التي تتجدد دون أن تتنكر لتاريخها وذاكرتها، هي وحدها القادرة على الجمع بين الوفاء للماضي والانفتاح على المستقبل.
الشباب والمرأة والكفاءات: قوى التغيير الحقيقي
لا يمكن لأي تجديد حقيقي داخل حركة النهضة أن يتحقق دون تمكين فعلي ومستدام للشباب والنساء والكفاءات، ليس فقط بوصفهم "ديكوراً تنظيمياً" أو مجرد أرقام في الهياكل، بل باعتبارهم قوى تغيير حقيقية عانت طويلاً من التهميش والإقصاء. فالحركة لطالما عُرفت تاريخياً بديناميكيتها الشبابية، وخاصة من خلال فصيلها الطلابي الذي لعب دوراً محورياً في تطوير خطابها وتجديد أدواتها، لا سيما في فترات الحصار والمراجعة. كما كانت مشاركة المرأة في حركة النهضة، على امتداد عقود، جزءاً من تميزها وتفردها داخل حركات التيار الإسلامي.
اليوم، تزخر حركة النهضة بطاقات شبابية ومهنية ناضجة، قادرة على تقديم رؤى جديدة ومبتكرة، وتحويل مسار الحزب من حالة الاستنزاف والتراجع إلى حالة الإبداع السياسي والابتكار. والمطلوب هو انتقال قيادي وجيلي سلس ومنظم، يعطي لهذه القوى موقعاً في صنع القرار، ويكسر الحواجز والعقبات التي أعاقت التجديد لعقود طويلة. فبدون إشراك هذه الطاقات، لن تتجدد الفكرة، ولن تتغير الأداة، ولن تستأنف النهضة مسيرتها كقوة سياسية حية ومواكبة لتطورات عصرها.
تجديد الأداء القيادي والبرامج القابلة للتنفيذ
لعله من أبرز مظاهر الجمود داخل حركة النهضة في السنوات الأخيرة، غياب التطوير والتحسين في الأداء القيادي من حيث الفهم العميق للتحولات والمتغيرات، والقدرة على التحليل والاستشراف، ثم ترجمة ذلك إلى تخطيط عملي وتنفيذ فعال. فقد بقيت الكثير من الخطابات أسيرة العناوين الكبرى والمبادئ العامة، دون أن تتحول إلى سياسات ملموسة أو برامج تنموية قابلة للقياس والتطبيق.
لا يقتصر التحدي اليوم على طرح أفكار جديدة ومبتكرة، بل يتعدى ذلك إلى الارتقاء بالأداء السياسي إلى مستوى يواكب تعقيدات الواقع التونسي، من خلال توظيف أدوات التفكير الاستراتيجي، والعمل البرنامجي المنظم، وبناء فرق عمل متخصصة تتقاطع فيها السياسة مع الاقتصاد، والتنمية المستدامة، والتعليم النوعي، والبيئة النظيفة.
هذا التحول الجوهري من مجرد "الخطابات" إلى "البرامج"، ومن "التصريحات" إلى "الحلول العملية"، هو ما سيعيد لحركة النهضة مكانتها كقوة فاعلة قادرة على التأثير في الواقع، لا مجرد التفاعل معه بشكل سطحي.
المشهد التونسي بحاجة إلى قوى وسطية ديمقراطية متزنة
تعيش تونس اليوم فراغاً سياسياً حقيقياً ومؤثراً. يكشف السياق الوطني الأوسع عن حالة من الفراغ السياسي المقلق. فقد تآكلت الثقة بشكل كبير في الطبقة السياسية وفي النخب بشكل عام، وبات المشهد العام أسيراً لحالة استقطاب حادة بين شعبوية سلطوية من جهة، وخطاب نخبوي منفصل عن هموم الواقع من جهة أخرى.
في هذا السياق، تبدو تونس في حاجة ماسة إلى توسيع قاعدة الوسط السياسي الديمقراطي المعتدل، وهو الوسط الذي يمثل الأغلبية الصامتة من التونسيين: محافظين اجتماعياً، منفتحين سياسياً، رافضين للتطرف والغلو، وقلقين من التهميش والاستبعاد.
إن توسيع قاعدة هذا الوسط ليس مجرد خياراً نخبوياً، بل هو ضرورة وطنية ملحة لحماية المسار الديمقراطي وضمان الاستقرار السياسي والاجتماعي. وبإمكان حركة النهضة، إذا ما اختارت بالفعل طريق التجديد الجاد والمسؤول، أن تساهم بفعالية في سدّ هذا الفراغ وبناء هذا الواقع الوطني، لا بوصفها الحزب "الإسلامي" الوحيد، بل من خلال تقديم نفسها كقوة وطنية محافظة وواقعية، وكحزب وطني يحمل مشروعاً اجتماعياً واقتصادياً واقعياً وقابلاً للتطبيق، ويعيد للعمل السياسي معناه الأخلاقي والمؤسساتي، ويلتزم بالديمقراطية، ويدافع عن الحريات، ويعمل من داخل الدولة ومؤسساتها، لا على هامشها أو ضدها. وبهذا المعنى، يمكن أن تكون حركة النهضة جزءاً من حل الأزمة السياسية في تونس، لا مجرد امتداد لمشاكلها وعقباتها.
تجديد النهضة كجزء من استعادة الديمقراطية
لا يمكن فصل الأزمة التي تعيشها حركة النهضة عن الأزمة الوطنية العامة التي تمر بها تونس منذ أحداث 25 يوليو/تموز 2021. ولكن من الخطأ الفادح التعامل مع تلك الأحداث فقط كسبب خارجي يبرر الإخفاقات والقصور، إذ إن أحد أهم الدروس المستخلصة من مرحلة ما بعد تلك الأحداث هو أن استعادة الديمقراطية لا تتحقق فقط من خلال مقاومة الاستبداد، بل أيضاً من خلال تجديد عميق وشامل للمشهد الحزبي والسياسي، وتجاوز حالة العجز التي تعاني منها النخب السياسية في تجديد أدواتها وخطاباتها.
وفي هذا الإطار، يجب على حركة النهضة أن تنظر إلى مسار التجديد ليس فقط كحاجة داخلية ملحة، بل كمساهمة ضرورية في إعادة بناء الحياة السياسية على أسس ديمقراطية وتعددية أكثر نضجاً ورسوخاً.
فرغم التكلفة السياسية والمؤسساتية الباهظة لتلك الأحداث، إلا أنها كشفت عن حدود التجربة السابقة، وفتحت -لمن أراد أن يعتبر- فرصة للتفكير العميق في التغيير الجذري والفعال، ليس فقط في حدود حركة النهضة، بل على مستوى الخريطة السياسية بأكملها. ومتى تلاقت مراجعة الذات الحزبية مع إرادة وطنية جماعية للتصحيح والتغيير، يمكن حينها الحديث عن بداية خروج حقيقي وملموس من الأزمة.
لحظة مفصلية في تاريخ الحزب وفي مستقبل البلاد
إن الوضع الراهن لا يحتمل المزيد من الانتظار والتأجيل. فالتاريخ السياسي مليء بأمثلة لأحزاب سقطت وتلاشت لأنها لم تستطع مواكبة التحولات والتغيرات، واختارت الدفاع عن الماضي بدلاً من الاستثمار في المستقبل وبناء غدٍ أفضل.
تقف حركة النهضة اليوم أمام خيارين لا ثالث لهما: إما أن تثور على ذاتها وتتجاوز نقاط ضعفها، أو تتحول إلى مجرد أثر سياسي باهت في ذاكرة الانتقال الديمقراطي. والمطلوب هو مراجعة شجاعة ومسؤولة تعيد المشروع إلى مساره الأصلي: مشروعاً سياسياً وطنياً، ينطلق من صميم المجتمع، ويتفاعل مع العصر بكل تطوراته، ويخدم مصالح الدولة العليا لا مصالح فئة معينة أو جماعة محدودة.
وعلى الرغم من الأزمة التي تمر بها حركة النهضة، إلا أنها لا تزال تمتلك إمكانات هائلة كامنة وغير مستغلة: رصيد نضالي طويل، وتنظيم منضبط وفعال، وحضور رمزي قوي في وجدان شريحة واسعة من التونسيين. ولكن هذه الإمكانات قابلة للتضاؤل والتآكل إذا لم يتم تعزيزها بفكر جديد ورؤية متجددة.
لا شك أن حركة النهضة قادرة على التجدد والتطور، ولكن ذلك يتطلب منها شجاعة الاعتراف بأخطاء الماضي، والجرأة على القطيعة مع كل ما لم يعد صالحاً، والرغبة الصادقة في الانفتاح على جيل جديد من الكفاءات والقيم والأولويات.
فتونس اليوم لا تحتاج إلى نسخة مكررة من الأحزاب التقليدية، بل إلى حزب يعبر عن روحها المحافظة المنفتحة، ويعيد إلى السياسة معناها الأخلاقي والبراغماتي في آن واحد.
وحركة النهضة، إذا ما اختارت هذا المسار الصعب، قد تكون قادرة على لعب دور أساسي في ترميم الحياة السياسية، واستعادة التوازن المنشود، وتجديد الأمل في العمل الحزبي كأداة للإصلاح والتغيير، لا مجرد وسيلة للوصول إلى السلطة.
حركة النهضة، مثل تونس، تقف على أعتاب مرحلة جديدة ومصيرية. فإما أن تكتب فصلها القادم بعقلانية وشجاعة وإقدام، أو تُترك للتاريخ كفرصة ثمينة ضاعت حين لم يحسن أصحابها قراءتها واستغلالها.